بعد معرضيه الأخيرين بكل من الرباط وألميريا بإسبانيا، يقيم الشاعر والفنان التشكيلي عزيز أزغاي معرضا جديدا برواق دار الشريفية، بين أسوار مراكش العتيقة، تحت عنوان "تباينات - Contrastes" المستمر حتى 31 يناير 2009، ويمكن قراءة معارض أزغاي انطلاقا من عناوينها، فالعتبات عنده "دالة على ماهية التجربة، وعلى سؤالها الذي تستبطنه ".
من ابداعات الفنان التشكيلي ازاغاي
بدأ عزيز أزغاي ممارسة الفن منذ سنوات الثمانينيات، وهو شاعر معروف بالمغرب وفنان عصامي اعتمد على تكوينه الذاتي لصياغة موقعه وصورته التي ترسخت في المشهد الفني المغربي، التقتيناه على هامش معرضه بمراكش وكان معه هذا الحوار..
1-كيف كانت بدايتك مع التشكيل؟
•أعتقد أن مسألة البدايات هذه يكتنفها غير قليل من الغموض، بمعنى أن كل مبدع – وربما كان هذا الأمر قاعدة عامة – يكون في بداياته مشتتا بين أجناس وأشكال إبداعية مختلفة، بدافع إثبات الذات واكتساب مهارات متعددة، يمكن للمبدع بعدها أن يختار أقربها إلى وجدانه، أو بالأحرى، أيسرها إلى تمثل ذائقته الإبداعية على نحو يرضي غروره ويمكنه من حيازة مكان خاص تحت الشمس.
وفي أحيان أخرى كثيرة يكون الداعي لاختيار شكل إبداعي دون آخر رهينا بمدى توفر الإمكانات اللازمة "المادية منها على وجه الخصوص"، والكفيلة بإنجاح هذه التجربة أو فشلها أو باستمرارها أو توقفها.
بالنسبة لي، كانت بدايتي موزعة بين التشكيل – في مرحلة أولى– ثم دعمت بكتابة الشعر في مرحلة قريبة لاحقة، غير أن ما يتطلبه التشكيل من أدوات ومعدات لم يكن بمقدوري، أنا الذي أنتمي إلى عائلة فقيرة، أن أوفرها، الأمر الذي جعلني أرجئ - مكرها - هذا " الحب القاسي " إلى حين، مركزا بذلك مجهوداتي على كتابة الشعر.
وقد استمر الوضع على هذا النحو قرابة عشرين سنة، حين أصبح بإمكاني، بعدما صرت "مواطنا صالحا في نظر الدولة وفي نظر المجتمع "أملك دخلا قارا، أن أعيد فتح قمقم التشكيل السحري، وكان ذلك في مطلع الألفية الثالثة. ومنذ ذلك التاريخ إلى اليوم، أقمت ما يزيد على عشرة معارض، سواء داخل المغرب أو خارجه، دون أن أفرط، طبعا، في كتابة الشعر ونشره.
2 - ما هي أهم العناصر والمواد التي تشتغل بها وعليها؟
•شكلت المادة في تجربتي الإبداعية عنصرا أساسيا، وقد كانت تتوزع دائما بين مسحوق الرخام، ومواد أخرى مثل الجير والرماد ومختلف أنواع وألوان التراب، ناهيك عن استعمال تقنيات الكولاج فوق القماشة كسند.
وقد كنت أميل، حتى وقت قريب، إلى استعمال الأصباغ ذات الأصل الطبيعي، كالنيلة "Pigments" التي تستعمل عادة في تلوين الصوف أو في طلي جدران البيوت العتيقة أو مسحوق الجوز وما إلى ذلك، قبل أن أغرم بصباغة الأكليريك Acrylique.
وقد كانت لدي قناعة، في تعاملي مع هذا المطبخ الخاص، كون هذه المواد هي التي تكسب اللوحة روحا أو بالأحرى هندسة، ليس فقط في جانبها البصري، وإنما أساسا في الجانب المتعلق بحاسة اللمس، أي أن اللوحة، ككيان،حين تفقد، مع مرور الوقت، بعضا من موادها فإن ذلك يمنحها وجودا متحولا يشبه إلى حد كبير التحول البيولوجي والطبيعي الذي يلحق الفنان الذي أنجزها.
ولعل هذا الإحساس بالتحول، هو الذي لم أكن أشعر به أمام لوحة " مسطحة وجامدة " تخلو من روح المادة.
3 - هل تعتمد تجربتك "كل معرض على حدة" على تيمة محددة أم أن لكل لوحة شخصية مستقلة ؟
•أظن أن مسألة التيمة كما جاءت في سؤالك لا ينبغي أن تكون رهينة برمجة "عقلانية" أو مسوغ مدرسي أكاديمي ساذج وبسيط، بقدر ما ينبغي لها أن تستجيب لذائقة الفنان الإبداعية والوجدانية والجمالية.
بمعنى، أنني لا أقف كثيرا عند هاجس الغييرات الطارئة "أو هكذا أتصور الأمر على الأقل" بقدر ما أنحاز إلى تطوير نفس الموضوع إلى أقصى حد. ومن ثم، أظن أن تيمة واحدة يمكن أن تكون عنوان مسار تجربة كاملة لفنان واحد أو لعدة فنانين.
لكن الأساس، في نظري، هو كيف يمكن الاشتغال عليها بالقدر الذي يجعلها تتطور في العمق وتجدد نفسها وتعكس التغير الذي يحياه الفنان كذات خاصة ومستقلة نسبيا.
4 - ما هي أهم المراحل التي قطعتها تجربتك الفنية؟
•سأكون مدعيا إن تحدثت عن تجربة تخصني "هكذا دفعة واحدة"، لأن اكتمال هذه التجربة، أو على الأقل ظهور بعض ملامحها الأساسية، أمر يحتاج إلى حفر فني ومعرفي عميقين لم أصل بعد إلى تحقيقهما.
ما أستطيع قوله، بهذا الصدد، هو أنني لا أتوقف عن البحث والاجتهاد والإنصات العميق للناس وللأشياء بما يرهق النفس والروح والجسد، في محاولة لتطويع فكرة بسيطة أوتوليد لون طارئ أو إغناء حركة مفاجئة بقدر كبير من روح التلمذة والتواضع والاعتراف بفضل الآخرين على شخصي المتواضع.
5 - ما هي العلاقة التي تربط الشعر مع التشكيل؟
•إنها نفس العلاقة التي تربط بين الماء والهواء، أو بين امرأة ورجل، إنها ذلك التكامل الحتمي والضروري الذي به ولأجله تكتمل صورة وحقيقة الوجود والأشياء.
وبعبارة بسيطة، إنها تلك الطريق السرية التي يسلكها الشاعر في اتجاه التشكيل حين لا يهزمه تمنع اللغة، وهي نفسها الطريق التي يلجأ إليها الفنان التشكيلي في اتجاه اللغة، حين تخطئه الألوان والمواد والحركات الطيبة "هذا على الأقل بالنسبة لحالتي".
وقد يصبح لهذه العلاقة معنى آخر بالنسبة لمن قدر له الإبداع داخل اللغة العربية، لما تحمله من إكراهات ومن صعوبات مرتبطة باللغة العربية كلغة " مقدسة " في حد ذاتها، الأمر الذي قد يصبح، مع بعض الاستعامالات غير المألوفة، مدعاة للمساءلة والاتهام من طرف حراس الظلام وكهنة الخواء.
من هنا، يظل التشكيل السبيل الأكثر ملاءمة للتعبير بالحرية اللازمة والضرورية في مثل حالات التوتر المصطنعة والجاهلة هذه.
6- ما رأيك في الواقع الفني بالمغرب؟ هل هو ناضج؟ هل يستطيع الفنان تدبر أمور حياته من خلال أعماله الفنية؟ ما هي الصعوبات التي تعترض الفنان التشكيلي ؟
•قبل عشر سنوات فقط، كان الفنان المغربي، أو معظم الفنانين المغاربة، لا يغامرون بالتفرغ كلية لممارسة فنهم، بسبب الانتشار المحدود للوحة بين صفوف المهتمين، وبسبب غياب ثقافة بصرية وجمالية حقيقيتين داخل أوساط مختلف طبقات المجتمع المغربي، ولأن ذلك كان يعني، بكل بساطة، انتحارا حقيقيا.
غير أن مياها كثيرة جرت تحت الجسر "كما تقول الجملة الشهيرة"، وأصبحنا في الوقت الراهن نعيش تحولا غير مسبوق في سياق التعاطي الإيجابي لفئات معينة داخل المجتمع مع الفن التشكيلي، بدءا بالملك مرورا بمحيطه كالوزراء والسفراء ورجال ونساء الأعمال والمؤسسات البنكية وبعض الخواص الذين أخذوا يستثمرون في الفن، وصولا إلى عدد لا يستهان به من متوسطي الدخل.
ولعل هذا الواقع الجديد هو ما ساعد على ضخ روح جديدة في المشهد التشكيلي المغربي، حتى أصبحنا نجد اليوم عددا مهما من الفنانين يعيشون من عائدات أعمالهم الفنية، بل يعيشون في رفاهية توفرها لهم سوق المبيعات، ولأن المنتوج الفني المغربي "وهذا هو المهم في نظري" قد حقق طفرة نوعية، بسبب انفتاحه على كل التجارب الفنية الرائدة كونيا، هذا على الرغم من أن المغرب لا يتوفر سوى على مدرستين يتيمتين للفنون الجميلة هما: مدرسة تطوان ومدرسة الدار البيضاء.
7- كم تستغرق من الوقت أثناء رسم لوحاتك؟
•إن مسألة الوقت هذه مسألة نسبية، وما يعانيه الفنان التشكيلي في إنجاز عمله الفني يعانيه الشاعر كذلك والروائي والكاتب المسرحي وكاتب السيناريو والنحات...لذلك، قد يأخذ مني إنجاز لوحة واحدة شهرا كاملا، وقد تتقلص هذه المدة لتصبح مجرد ساعات قليلة، وذلك بسبب الحالة النفسية والمزاجية والجسدية مجتمعة التي قد أكون عليها.
8 - ماذا تضيف المعارض للفنان؟
•يمكن اعتبار لحظة تنظيم معرض فني بمثابة اختبار حقيقي وتقييم ضروري لمجهود قد يستغرق الفنان شهورا كما قد يستغرقه لبضع سنوات، وبالتالي، فإن الفنان يكون حريصا وبأنانية مفرطة ومحببة على ملامسة مدى التأثير الذي يخلفه العمل الفني في نفسية الزائر عموما، وفي نظر زملائه الفنانين ونقاد الجمال على وجه الخصوص، إن كل معرض يعتبر بمثابة لحظة اعتراف جميلة يكون الفنان في حاجة إليها ليستمر.
9- ما الذي يميز معرضك الأخير؟ هل اشتغلت على شيء محدد " مختلف؟" هل عالجت موضوعا جديدا ؟
•" تباينات - Contrastes" هو العنوان الذي اخترته لمعرضي الذي يقام ما بين 12 ديسمبر 2008 و31 يناير 2009 برواق دار الشريفة بمدينة مراكش، ولا أخفيك سرا أن اختيار هذا العنوان قد استغرق مني وقتا غير يسير "مثلما يحدث معي في اختيار عناوين قصائدي أو مجموعاتي الشعرية".
حيث أصبح مشتتا بين العديد من الاقتراحات قبل أن أهتدي إلى صيغة ملائمة تعكس، بهذا القدر أو ذاك، روح العمل الذي أنوي عرضه. لذلك، فإن لفظة " تباينات " تعكس – في العمق – ذلك التمازج الذي أردت من خلاله التعبير عن مجموعتين من الأعمال المعروضة؛ فمن جهة هناك أعمال ترجع إلى سنتي 2006 و2007 وكلها بالأبيض والأسود، وفيها توظيف كثيف للمادة "مسحوق الرخام وتقنية الكولاج".
ثم هناك أعمال أخرى أنجزتها في سنة 2008 وهي مخففة كلية من المادة، لكن تقنية الاشتغال عليها، من خلال التعامل مع اللون والحركة واستغلال الفضاء، يعطي الانطباع بأنها ذات نتوءات مادية بارزة، كما لو أن الأمر يتعلق بخدعة بصرية، والحال أنني أردت أن أبقى قريبا جدا من عمق الأعمال السابقة، بالرغم من أن خلفية الأعمال الأخيرة تعتبر مختلفة عنها بشكل تام. إنني، في أول الأمر وفي آخره، أجرب وأجرب ثم أجرب.
10- ما هي الرهانات التي تطرحها خلال عملك كفنان؟ هل لديك طموح محدد لصياغة شيء ما؟
•إن مسألة الرهان والطموح ينبغي لها أن تكون مشروعا وجوديا يطال كينونة الكائن في جميع تمظهراتها وتحققاتها، وليس فقط طموحا معزولا يرتبط بشكل تعبيري ينخرط الفنان في تربيته بصبر وطول بال، بمعنى أن رهان الفنان ينبغي أن يصبح معطى كليا ينعكس على الأشياء التي يعيش داخلها وتلك التي تحيط به وعلى كل مراحل حياته، ولا يقف فقط عند هامش من هوامش الحياة الكثيرة.
رهاني، إذن، أن أسهم، ولو بقسط ضئيل، في تنظيف عيون الناس ورؤيتهم للأشياء المحيطة بهم، وجعلهم يؤمنون بدور الجمال في صناعة الفرح وفي الإيمان بجدوى الأمل والحب والطمأنينة التي لا تتكئ على الكسل. أظن أنني بالغت ! لكن لا أعتقد أن الحلم ممنوع.
المغرب- عبد العزيز الراشدي
alarabonline.org